السيد محمد باقر الصدر
قال الله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ) (الإنشقاق/ 6).
هذه الآية الكريمة تضع الله سبحانه وتعالى هدفاً أعلى للإنسان والإنسان هنا بمعنى الإنسانية ككل، فالإنسانية بمجموعها تكدح نحو الله سبحانه وتعالى، والكدح كدح الإنسانية ككل، نحو الله سبحانه وتعالى، يعني السير المستمر بالمعاناة وبالجهد وبالمجاهدة، لأنّ هذا السير ليس سيراً اعتيادياً، بل هو سير ارتقائي، هو تصاعد وتكامل، هو سير تسلق فهؤلاء الذين يتسلقون الجبال ليصلوا إلى القمم يكدحون نحو هذه القمم، يسيرون سير معاناة وجهد.
كذلك الإنسانية حينما تكدح نحو الله فإنما هي تتسلق إلى قمم كمالها وتكاملها وتطورها إلى الأفضل باستمرار.
وهذا السير الذي يحتوي على المعاناة باستمرار، هذا السير يفترض طريقاً لا محالة، فإنّ السير نحو هدف يفترض حتماً طريقاً ممتداً بين السائر وبين ذلك الهدف، وهذا الطريق هو الذي تحدثت عنه الآيات الكريمة في المواضع المتفرقة تحت اسم سبيل الله واسم الصراط واسم صراط الله، هذه الصيغ القرآنية المتعددة كلها تتحدث عن الطريق الذي يفترضه ذلك السير وكما انّ السير يفترض الطريق، كذلك الطريق يفترض السير أيضاً، وهذه الآية الكريمة (يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ) (الإنشقاق/ 6)، تتحدث عن حقيقة قائمة، عن واقع موضوعي ثابت، فهي ليست بصدد ان تدعو الناس إلى أن يسيروا في طريق الله سبحانه وتعالى، ليست بصدد الطلب والتحريك كما هو الحال في آيات أخرى في مقامات وسياقات قرآنية أخرى.
الآية الكريمة لا تقول يا أيها الناس تعالوا إلى سبيل الله، توبوا إلى الله بل تقول: (يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ)، لغة الآية لغة التحدث عن واقع ثابت وحقيقة قائمة وهي ان كل سير وكل تقدم للإنسان في مسيرته التاريخية الطويلة الأمد، فهو تقدم نحو الله سبحانه وتعالى وسير نحو الله سبحانه وتعالى، حتى تلك الجماعات التي تمسكت بالمثل المنخفضة وبالآلهة المصطنعة واستطاعت أن تحقق لها سيراً ضمن خطوة على هذا الطريق الطويل، حتى هذه الجماعات التي يسميها القرآن بالمشكرين حتى هؤلاء هم يسيرون هذه الخطوة نحو الله، هذا التقدم بقدر فاعليته وبقدر زخمه هو اقتراب نحو الله سبحانه وتعالى، لكن فرق بين تقدم مسؤول وتقدم غير مسؤول، حينما تتقدم الإنسانية في هذا المسار واعية على المثل الأعلى وعياً موضوعياً يكون التقدم تقدماً مسؤولاً، يكون عبادة بحسب لغة الفقه، لوناً من العبادة يكون لهم امتداد على الخط الطويل وانسجام مع الوضع العريض للكون، وأما حينما يكون التقدم منفصلاً عن الوعي على ذلك المثل فهو تقدم على أي حال، سير نحو الله على أي حال، ولكنه تقدم غير مسؤول على ما يأتي تفصيله.
إذن كل تقدم هو تقدم نحو الله، حتى أولئك الذين ركضوا وراء سراب كما تحدث الآية الكريمة فإنّ هؤلاء الذين يركضون وراء السراب الاجتماعي، وراء المثل المنخفضة، هؤلاء حينما يصلون إلى هذا السراب لا يجدون شيئاً، ويجدون الله سبحانه وتعالى فيوفيهم حسابهم كما تتحدث الآية الكريمة التي قرأناها فيما سبق.
والله سبحانه وتعالى هو نهاية هذا الطريق ولكنه ليس نهاية جغرافية ليس نهاية على نمط النهايات الجغرافية للطريق الممتدة مكانياً.
كربلاء مثلاً نهاية طريق ممتد بين النجف وكربلاء، كربلاء بمعناها المكاني نهاية جغرافية، ومعنى أنها نهاية جغرافية أنها موجودة على آخر الطريق، ليست موجودة على طوال الطريق، لو أن انساناً سار نحو كربلاء ووقف في نصف الطريق لا يحصل على شيء من كربلاء، لا يحصل على حفنة من تراب كربلاء اطلاقاً، لأنّ كربلاء نهاية جغرافية موجودة في آخر الطريق، ولكن الله سبحانه وتعالى ليس نهاية على نمط النهايات الجغرافية، الله سبحانه وتعالى هو المطلق، هو المثل الأعلى، أي المطلق الحقيقي العيني، وبحكم كونه هو المطلق، إذن هو موجود على طول الطريق أيضاً، ليس هناك فراغ منه، ليس هناك انحسار عنه، ليس هناك حد له، الله سبحانه وتعالى هو نهاية الطريق ولكنه موجود أيضاً على طول الطريق، من وصل إلى نصف الطريق، من وصل إلى سرابه، فتوقف واكتشف انّه سراب، ماذا يجد؟ ماذا وجد في الآية؟.. وجد الله فوفّاه الله حسابه لأنّ المطلق موجود على طول الطريق، وبقدر زخم الطريق وبقدر التقدم في الطريق يجد الإنسان مثله الأعلى، يلقى الله سبحانه وتعالى اينما توقف بحجم سيره، وبحجم تقدمه على هذا الطريق.
وبحكم أنّ الله سبحانه وتعالى هو المطلق إذن الطريق أيضاً لا ينتهي، هذا الطريق طريق الإنسان نحو الله هو اقتراب مستمر بقدر التقدم الحقيقي نحو الله، ولكن هذا الاقتراب يبقى اقتراباً نسبياً، يبقى مجرد خطوات على الطريق من دون أن يُجتاز هذا الطريق، لأنّ المحدود لا يصل إلى المطلق، الكائن المتناهي لا يمكن أن يصل إلى اللامتناهي، فالفسحة الممتدة بين الإنسان وبين المثل الأعلى هنا، فسحة لا متناهية، أي انّه ترك له مجال الإبداع إلى اللانهاية، مجال التطور التكاملي إلى اللانهاية، باعتبار أنّ الطريق الممتد طريق لا نهائي. وهذا المثل الأعلى الحقيقي حينما تتبناه المسيرة الإنسانية وتوفق بين وعيها البشري والواقع الكوني الذي يفترض هذا المثل الأعلى حقيقة قائمة كما افترضته الآية، المسيرة الإنسانية حينما توفق بين وعيها على المسيرة وبين الواقع الكوني لهذه المسيرة بوصفها سائرة ومتجهة نحو الله، سوف يحدث تغيير كمي وكيفي على هذه المسيرة، هذه الحركة سوف يحدث فيها تغيير كمي وكيفي.
أما التغيير الكمي على هذه الحركة فهو باعتبار ما أشرنا إليه من أنّ الطريق حينما يكون طريقاً إلى المثل الأعلى الحق يكون طريقاً غير متناهٍ، أي أن مجال التطور والإبداع والنمو قائم أبداً ودائماً، ومفتوح للإنسان باستمرار من دون توقف، هذا المثل الأعلى حينما يتبنى سوف تمسح من الطريق كل الآلهة المزورة، كل الأصنام وكل الاقزام المتصنّمة على طريق الإنسان التي تقف عقبة بين الإنسان وبين وصوله إلى الله سبحانه وتعالى.
ومن هنا كان دين التوحيد صراعاً مستمراً مع مختلف أشكال الآلهة والمثل المنخفضة والتكرارية التي حاولت ان تحدد من كمية الحركة، من أن توصل الحركة إلى نقطة ثمّ تقول قف أيها الإنسان. هذه الآلهة التي ارادت أن توقف الإنسان في وسط الطريق، وفي نقطة معينة كان دين التوحيد على مرّ التاريخ هو حامل لواء المعركة ضدها، هذا المثل الأعلى اذن سوف يُحدث تغييراً كمياً على الحركة لأنّه يطلقها من عقالها، يطلقها من هذه الحدود المصطنعة لكي تسير باستمرار.
وأما التغيير الكيفي الذي يحدثه المثل الأعلى على هذه المسيرة فهذا التغيير الكيفي هو اعطاء الحل الموضوعي الوحيد للجدل الإنساني للتناقض الإنساني، اعطاء الشعور بالمسؤولية الموضوعية لدى الإنسان، الإنسان من خلال إيمانه بهذه المثل الأعلى ووعيه على طريقه بحدوده الكونية الواقعية من هذا الوعي ينشأ بصورة موضوعية، شعور معمق لديه بالمسؤولية تجاه هذا المثل الأعلى، لأوّل مرة في تاريخ المثل البشرية التي حركت البشر على مرّ التاريخ.
لماذا؟
لأنّ هذا المثل الأعلى حقيقة وواقع عيني منفصل عن الإنسان وبهذا يعطي للمسؤولية شرطها المنطقي، فإنّ المسؤولية الحقيقية لا تقوم إلّا بين جهتين: مسؤول، ومسؤول لديه. إذا لم يكن هناك جهة أعلى من هذا الكائن المسؤول وإذا لم يكن هذا الكائن المسؤول مؤمناً بأنّه بين يدي جهة أعلى، لا يمكن ان يكون شعوره بالمسؤولية شعوراً موضوعياً، شعوراً حقيقياً.
مثلاً تلك المثل المنخفضة، تلك الآلهة، تلك الاقزام المتعملقة على مرِّ التاريخ، على مرِّ المسيرة البشرية هي في الحقيقة لم تكن كما رأينا وكما حللنا إلّا افرازاً بشرياً، الّا انتاجاً إنسانياً، يعني أنها جزء من الإنسان، جزء من كيان الإنسان، والإنسان لا يمكن ان يستشعر بصورة موضوعية حقيقية، المسؤولية تجاه ما يفرزه، هو اتجاه ما يصنعه هو (إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا) (النجم/ 23)، تلك المثل لا تصنع الشعور الموضوعي بالمسؤولية، نعم قد تصنع قوانين، قد تصنع عادات، قد تصنع أخلاقاً، ولكنها كلها غطاء طاهري، وكلما وجد هذا الإنسان مجالاً للتحلل من هذه العادات، ومن هذه الأخلاق، ومن هذه القوانين فسوف يتحلل.
بينما المثل الأعلى لدين التوحيد، للأنبياء على مرّ التاريخ باعتباره واقعاً عينياً منفصلاً عن الإنسان، باعتباره جهة أعلى من الإنسان ليست افرازاً بشرياً، ليست انتاجاً إنسانياً، إذن سوف يتوصل للشعور بالمسؤولية، شرطه الموضوعي في المقام، لماذا كان الأنبياء على مرّ التاريخ أصلب الثوار على الساحة التاريخية؟ انظف الثوار على الساحة التاريخية؟ لماذا كانوا على الساحة التاريخية فوق كل مساومة، فوق كل مهادنة، فوق كل تململ يمنة أو يسرة؟ لماذا كانوا هكذا؟ لماذا انهار كثير من الثوار على مرّ التاريخ ولم يسمع أن نبياً من أنبياء التوحيد انهار أو تململ أو انحرف يمنة أو يسرة عن الرسالة التي بيده وعن الكتاب الذي يحمله من السماء؟
لأنّ المثل الأعلى المنفصل عنه الذي هو فوقه الذي اعطاه نفحة موضوعية من الشعور بالمسؤولية، وهذا الشعور بالمسؤولية تجسد في كل كيانه، في كل مشاعره وأفكاره وعواطفه.
ومن هنا كان النبيّ معصوماً على مرّ التاريخ.
إذن هذا المثل الأعلى بحسب الحقيقة يحدث تغييراً كيفياً على المسيرة لأنّه يعطي الشعور بالمسؤولية، وهذا الشعور بالمسؤولية ليس أمراً عرضياً ليس أمراً ثانوياً في مسيرة الإنسان، بل هذا شرط أساسي في امكان انجاح هذه المسيرة وتقديم الحل الموضوعي للتناقض الإنساني، للجدل الإنساني، لأنّ الإنسان يعيش تناقضاً، الإنسان بحسب تركيبه وخلقته يعيش تناقضاً، لأنّه هو تركيب من حفنة من تراب ونفحة من روح الله سبحانه وتعالى كما وصفت ذلك الآيات الكريمة.
الآيات الكريمة قالت بأنّ الإنسان خلق من تراب، وقالت بأنّه نفخ فيه من روحه سبحانه وتعالى.
إذن فهو مجموع نقيضين اجتمعا والتحما في الإنسان، حفنة التراب تجره إلى الأرض، تجره إلى الشهوات، إلى الميول، تجره إلى كل ما ترمز إليه الأرض من انحدار وانحطاط، وروح الله سبحانه وتعالى التي نفخها فيه تجره إلى أعلى، تتسامى بانسانيته إلى حيث صفات الله، إلى حيث اخلاق الله، تخلقوا بأخلاق الله، إلى حيث العلم الذي لا حد له والقدرة التي لا حد لها، إلى حيث العدل الذي لا حد له، إلى حيث الجود والرحمة والانتقام، إلى حيث هذه الأخلاق الإلهية، هذا الإنسان واقع في تيار هذا التناقض، فيتيار هذا الجدل بحسب محتواه النفسي، بحسب تركيبه الداخلي، هذا الجدل وهذا التناقض الذي احتوته طبيعة الإنسان وشرحته قصة آدم على ما يأتي إن شاء الله تعالى، هذا الجدل الإنساني له حل واحد فقط، هذا الحل الواحد الذي يمكن أن يوضع لهذا التناقض هو الشعور بالمسؤولية، لكن لا الشعور المنبثق عن نفس هذا الجدل، فإنّ الشعور المنبثق عن نفس هذا الجل، لا يحل هذا الجدل، هو ابن الجدل بل هو افراز هذا التناقض، وانما الشعور الموضوعي بالمسؤولية لا يكفله إلّا المثل الأعلى الذي يكون جهة عليا، يحس الإنسان من خلالها بأنّه بين رب قادر سميع بصير محاسب مجاز على الظلم، مجاز على العدل.
إذن هذا الشعور الموضوعي بالمسؤولية الذي هو التغيير الكيفي على المسيرة هو في الحقيقة الحل الوحيد للتناقض وللجدل الذي تستبطنه طبيعة الإنسان وتركيب الإنسان.
دور دين التوحيد إذن هو عبارة عن تعبيد هذا الطريق الطويل الطويل، تعبيده، إزالة العوائق من خلال تنمية الحركة كمياً وكيفياً، محاربة تلك المثل المصطنعة والمنخفضة والتكرارية التي تريد ان تجمد الحركة من ناحية، أن تعريها من الشعور بالمسؤولية من ناحية أخرى، ومن هنا كان حرب الأنبياء كما أشرنا، كان حرب الأنبياء مع الآلهة المصطنعة على مرّ التاريخ.
ولما كان كل مثل من هذه المثل العليا التي تتحول إلى تمثال ضمن ظروف تطورها بالشكل الذي شرحناه فيما سبق، حينما تتحول إلى تمثال تجد في مجموعة من الناس، تجد فيهم مدافعين طبيعيين عنها باعتبار ان مجموعة من الناس ترتبط مصالحهم، ترفهم، كيانهم المادي والدنيوي ببقاء هذا المثال الذي تحول إلى تمثال ولهذا يقف دائماً هؤلاء الذين يرتبطون مصلحياً بهذا التمثال، يقفون دائماً في وجه الأنبياء ليدافعوا عن مصالحهم، عن دنياهم، عن ترفهم.
ومن هنا أبرز القرآن الكريم سُنّة من سُنن التاريخ وهي انّ الأنبياء دائماً كانوا يواجهون المترفين من مجتمعاتهم كقطب آخر في المعارضة مع هذا النبيّ لأنّ هذا المترف المستفيد من هذا المثال بعد أن تحول إلى التمثال، هذا المثال تحول إلى تمثال فمن هو المستفيد منه؟ المستفيد منه المترفون في ذلك المجتمع، المنعَّمون على حساب الناس الذين يجعلون من هذا التمثال مبرراً لوجودهم، من هنا يكون من الطبيعي أنّ هؤلاء المترفين وهؤلاء المستفيدين نجدهم دائماً في الخط المعارض للأنبياء، (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (الزخرف/ 23).
(وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) (سبأ/ 34).
(سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) (الأعراف/ 146).
(وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) (المؤمنون/ 33).
إذن دين التوحيد هو الذي يستأصل مصالح هؤلاء المترفين بالقضاء على آلهتهم وعلى مثلهم التي تحولت إلى تماثل، يقطع صلة البشرية بهذه المثل العليا المنخفضة ولكنه لا يقطع صلتها بهذه المثل العليا المنخفضة لكي يطأ برأسها في التراث، لكي يحولها إلى كومة مادية ليس لها أشواق، ليس لها طموحات، ليس لها تطلعات إلى أعلى كما هو شأن الثوار الماديين الذين يستلهمون من المادية التأريخية ومن الفهم المادي للتاريخ، أولئك أيضاً يحاربون هذه الآلهة المصطنعة ويسمون هذه الآلهة المصطنعة بأنها أفيون الشعوب، ونحن أيضاً نحارب هذه الآلهة المصطنعة ولكننا نحن نحارب هذه الآلهة المصطنعة لا لكي نحول الإنسان إلى حيوان، لا لكي نقطع صلة الإنسان بأشواقه العليا، لا لكي نحول مسار الإنسان من أعلى إلى أسفل، وانما نقطع صلة الإنسان بهذه المثل المنخفضة لكي نشده إلى المثل الأعلى، لكي نشده إلى الله سبحانه وتعالى.
وتبني المسيرة البشرية لهذا المثل الأعلى الحق الذي يحدث هذه التغييرات الكيفية والكمية على اتجاه المسيرة وحجمها، تبني المسيرة البشرية لهذا المثل يتوقف على عدة أمور:
أوّلاً: على رؤية واضحة فكرياً وايديولوجياً لهذا المثل الأعلى، وهذه الرؤية الواضحة لهذا المثل الأعلى هي التي تقدمه عقيدة التوحيد على مرّ التاريخ، عقيدة التوحيد التي تنطوي على الإيمان بالله سبحانه وتعالى، التي توحد بين كل المثل، بين كل الغايات، كل الطموحات، كل التطلعات البشرية، توحد بينها في هذا المثل الأعلى الذي هو علم كله، قدرة كله، عدل كله، رحمة كله، انتقام من الجبارين. هذا المثل الأعلى الذي تتوحد فيه كل الطموحات وكل الغايات، هذا المثل الأعلى تعطينا عقيدة التوحيد رؤية واضحة له، تعلمنا على أن نتعامل مع صفات الله وأخلاق الله لا بوصفها حقائق عينية منفصلة عنا كما يتعامل فلاسفة الاغريق، وانما نتعامل مع هذه الصفات والأخلاق بوصفها رائداً عملياً، بوصفها هدفاً لمسيرتنا العملية، بوصفها مؤشرات على الطريق الطويل للإنسان نحو الله سبحانه وتعالى.
عقيدة التوحيد هي التي توفر هذا الشرط الأوّل: الرؤية الواضحة فكرياً وايديولوجياً للمثل الأعلى.
ثانياً: لابدّ من طاقة روحية مستمدة من هذا المثل الأعلى لكي تكون هذه الطاقة الروحية رصيداً ووقوداً مستمراً للإرادة البشرية على مرِّ التاريخ، هذه الطاقة الروحية، هذا الوقود الذي يستمد من الله سبحانه وتعالى يتمثل في عقيدة يوم القيامة، في عقيدة الحشر والامتداد، عقيدة يوم القيامة تُعلّم الإنسان انّ هذه الساحة التاريخية الصغيرة التي يلعب عليها الإنسان مرتبطة ارتباطاً مصيرياً بساحات برزخية وبساحات حشرية في عالم البرزخ والحشر، وإنّ مصير الإنسان على تلك الساحات العظيمة الهائلة مرتبط بدوره على هذه الساحة التاريخية. هذه العقيدة تعطي تلك الطاقة الروحية، ذلك الوقود الرباني الذي ينعش إرادة الإنسان ويحفظ له دائماً قدرته على التجديد والاستمرار.
ثالثاً: انّ هذا المثل الأعلى الذي تحدثنا عنه يختلف عن المثل العليا الأخرى التكرارية والمنخفضة التي تحدثنا عنها سابقاً، على أساس انّ هذا المثل منفصل عن الإنسان، ليس جزءاً من الإنسان، ليس من افراز الإنسان، بل هو منفصل عن الإنسان، هو واقع عيني قائم هناك، قائم في كل مكان وليس جزءاً من الإنسان، هذا الانفصال يفرض وجود صلة موضوعية بين الإنسان وهذا المثل الاعلى. لابدّ من صلة موضوعية بين هذا الإنسان وهذا المثل الأعلى، بينما المثل الأخرى السابقة كانت إنسانية، كانت افرازاً بشرياً لا حاجة إلى افتراض صلة موضوعية، نعم هناك طواغيت وفراعنة على مر التاريخ نصبوا من أنفسهم صلات موضوعية بين البشرية وبين آلهة الشمس، وآلهة الكواكب، ولكنها صلة موضوعية مزيفة لأنّ الإله هناك كان وهماً، كان وجوداً ذهنياً، كان افرازاً إنسانياً، اما هنا المثل الأعلى منفصل عن الإنسان ولهذا كان لابدّ من صلة موضوعية تربط هذا الإنسان بذلك المثل الأعلى.
وهذه الصلة الموضوعية تتجسد في النبي في دور النبوة، فالنبي هو ذلك الإنسان الذي يركب بين الشرط الأوّل والشرط الثاني بأمر الله سبحانه وتعالى، بين رؤية أيديولوجية واضحة للمثل الأعلى وطاقة روحية مستمدة من الإيمان بيوم القيامة، يُركّب بين هذين العنصرين ثمّ يجسّد بدور النبوة، الصلة بين المثل الأعلى والبشرية ليحمل هذا المركب إلى البشرية بشيراً ونذيراً، هذا ثالثاً.
ورابعاً: البشرية بعد أن تدخُل مرحلة يسميها القرآن مرحلة الاختلاف على ما يأتي ان شاء الله شرحه في الدروس القادمة سوف لن يكفي مجيء البشير النذير لأنّ مرحلة الاختلاف تعني مرحلة انتصاب تلك المثل المنخفضة أو التكرارية، تعني وجود تلك الآلهة المزورة على الطريق، وجود تلك الحواجب والعوائق عن الله سبحانه وتعالى، إذن لابدّ للبشرية من أن تخوض معركة ضد الآلهة المصطنعة، ضد تلك الطواغيت والمثل المنخفضة التي تنصب من نفسها قيّماً على البشرية وحاجزاً وقاطع طريق بالنسبة للمسيرة التاريخية، لابدّ من معركة ضد هذه الآلهة، ولابدّ من قيادة تتبنى هذه المعركة، وهذه القيادة هي الامامة، هي دور الامامة، الامام هو القائد الذي يتولى هذه المعركة. ودور الامامة يندمج مع دور النبوة في مرحة من النبوة يتحدث عنها القرآن وسوف نتحدث عنها إن شاء الله تعالى ونقول بأنها بدأت في أكبر الظن مع نوح (ع)، ودور الامامة يندمج مع دور النبوة ولكنه يمتد حتى بعد النبي إذا ترك النبي الساحة وبعدُ لا تزال المعركة قائمة ولا تزال الرسالة بحاجة إلى مواصلة هذه المعركة من أجل القضاء على تلك الآلهة حينئذ يمتد دور الامامة بعد انتهاء النبيّ.
هذا هو الشرط الرابع في تبني المسيرة البشرية لهذا المثل الأعلى.
على هذا الضوء سوف نكوِّن رؤية واضحة لما نسميه بأصول الدين الخمسة، سوف تقع أصول الدين الخمسة في موقعها الطبيعي، في موقعها الصحيح السليم من مسار الإنسان، أصول الدين الخمسة: التوحيد، هو الذي يعطي الشرط الأوّل، هو الذي يعطي الرؤية الواضحة فكرياً وايديولوجياً، هو الذي يجمع ويعبئ كل الطموحات وكل الغايات في مثل أعلى واحد وهو الله سبحانه وتعالى.
العدل: العدل هو جانب من التوحيد ولكن انما فصل، العدل صفة من صفات الله سبحانه وتعالى حال العدل، حال العلم، حال القدرة، لا يوجد ميزة عقائدية في العدل في مقابل العلم، في مقابل القدرة ولكن الميزة هنا ميزة اجتماعية، ميزة القدوة، لأنّ العدل هو الصفة التي تعطي للمسيرة الاجتماعية وتغني المسيرة الاجتماعية والتي تكون المسيرة الاجتماعية بحاجة إليها أكثر من أي صفة أخرى، أبرز العدل هنا كأصل ثاني من أصول الدين باعتبار المدلول التوجيهي، باعتبار المدلول التربوي لهذه الصفة، قلنا بأن صفات الله وأخلاق الله علَّمنا الإسلام على أن لا نتعامل معها كحقائق عينية ميتافيزيقية فوقنا لا صلة لنا بها وانما نتعامل معها كمؤشرات وكمنارات على الطريق، إذن من هنا كان العدل له مدلوله الأكبر بالنسبة إلى توجيه المسيرة البشرية، ولأجل ذلك أفرز. وإلّا العدل في الحقيقة هو داخل في إطار التوحيد العام، في إطار المثل الأعلى.
الأصل الثالث النبوة: النبوة هي التي توفر الصلة الموضوعية بين الإنسان وما بين المثل الأعلى، المسيرة البشرية كما قلنا حينما تبنت المثل الأعلى الحق المنفصل عنها الذي هو ليس من افرازها ومن انتاجها المنخفض كانت بحاجة إلى صلة موضوعية، هذه الصلة الموضوعية يجسدها النبي (ع)، النبيّ على مر التاريخ، الأنبياء صلوات الله عليهم هم الذين يجسدون هذه الصلة الموضوعية.
الإمامة: الإمامة هي في الحقيقة تلك القيادة التي تندمج مع دور النبوة، النبي امام أيضاً، النبي نبي، والنبيّ إمام ولكن الإمامة لا تنتهي بانتهاء النبيّ، إذا كان المعركة قائمة وإذا ما كانت الرسالة لا تزال بحاجة إلى قائد يواصل المعركة، إذن سوف يستمر هذا الجانب من دور النبيّ من خلال الإمامة. فالإمامة هو الأصل الرابع من أصول الدين.
والأصل الخامس هو الإيمان بيوم القيامة: هو الذي يوفر الشرط الثاني من الشروط الأربعة التي تقدمت، هو الذي يعطي تلك الطاقة الروحية، ذلك الوقود الرباني الذي يجدد دائماً إرادة الإنسان وقدرة الإنسان، ويوفر الشعور بالمسؤولية والضمانات الموضوعية.
إذن أصول الدين في الحقيقة وبالتعبير التحليلي على ضوء ما ذكرناه هي كلها عناصر تساهم في تركيب هذا المثل الأعلى وفي اعطاء تلك العلاقة الاجتماعية، بصيغتها القرآنية الرباعية التي تحدثنا عنها قبل أيام، كنا نقول، ماذا كنا نقول قبل أيام؟ بأنّ القرآن الكريم طرح العلاقة الاجتماعية ذات أربعة أبعاد لا ذات ثلاثة أبعاد، طرحها بصيغة الاستخلاف وشرحنا في ما سبق صيغة الاستخلاف، وقلنا بأنّ الاستخفاف يفترض أربعة أبعاد، يفترض إنساناً وانساناً وطبيعة والله سحبانه وتعالى وهو المستخلف. هذه الصيغة الرباعية للعلاقة الاجتماعية هي التعبير الآخر عن صيغة تدمج أصول الدين الخمسة في مركب واحد من أجل ان يسير الإنسان ويكدح نحو الله سبحانه وتعالى في طريقه الطويل.
بما ذكرناه توضح دور الإنسان في المسيرة التاريخية، توضح انّ الإنسان هو مركز الثقل في المسيرة التاريخية، وتوضح انّ الإنسان هو مركز الثقل لا بجسمه الفيزيائي وانما بمحتواه الداخلي، وهذا المحتوى الداخلي توضح أيضاً من خلال ما شرحناه، انّ الأساس في بناء هذا المحتوى الداخلي هو المثل الأعلى الذي يتبناه الإنسان، لأنّ المثل الأعلى هو الذي تنبثق منه كل الغايات التفصيلية، والغايات التفصيلية هي المحركات التاريخية للنشاطات على الساحة التاريخية.
إذن بناء المثل الأعلى وتبني المثل الأعلى هو في الحقيقة الأساس في بناء المحتوى الداخلي للإنسان ومن هنا ظهر دور هذا البعد الرابع.
يتبع...
المصدر: كتاب المدرسة القرآنية
ارسال التعليق